نهاية وشيكة للدعم السريع في السودان- دلالات الانتصار وخيارات المستقبل

في ربيع عام 2023، هوت الأراضي السودانية في براثن نزاع مسلح مروع، اندلع شرارته في منتصف شهر أبريل/نيسان بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا الدعم السريع، لتزج بالبلاد في أتون معارك طاحنة ومواجهات عسكرية ضارية.
خلال تلك الحقبة العصيبة، شهدت موازين القوى تقلّبات جمّة بين الطرفين المتنازعين، فتبادلا السيطرة على مناطق نفوذ استراتيجية، وحققا انتصارات ميدانية متفرقة، وتكبّدا خسائر موجعة في الأرواح والمعدات.
وفي تطور لافت، أعلن الجيش السوداني في الثامن والعشرين من شهر مارس/آذار لعام 2025، عن شنّه غارات جوية مكثفة على تجمعات قوات الدعم السريع في منطقة الفاشر، مؤكدًا في الوقت نفسه إحكام سيطرته الكاملة على العاصمة الخرطوم. هذا النصر الاستراتيجي يثير سيلاً من التساؤلات الحاسمة التي تتردد أصداؤها في أرجاء البلاد: هل تمثل هذه الانتصارات العسكرية بداية تحول استراتيجي شامل يُنذر بنهاية قريبة وحاسمة لقوات الدعم السريع، أم أنها مجرد ومضات انتصار زائلة سرعان ما تتبدل معطياتها في غضون الأيام القليلة القادمة؟
وفي خضم هذه التطورات المتلاحقة، استطاع الجيش السوداني استعادة السيطرة على القصر الجمهوري والوزارات السيادية في الخرطوم، في خطوة مفصلية تحمل في طياتها دلالات عميقة وأبعادًا استراتيجية هامة. فهل تُبشّر هذه السيطرة بعودة قوية لهيبة الدولة ومؤسساتها الشرعية، وإيذانًا بتغيير جذري لمسار الحرب نحو نهاية وشيكة ومحتومة، أم أنها مجرد انتصار عسكري يحمل رمزية سيادية قوية، دون أن يعكس بالضرورة استتباب الأمن والاستقرار الشامل في ربوع البلاد؟
في ظل هذه التحولات الميدانية المتسارعة، يلوح في الأفق سيناريو التفاوض كخيار محتمل، خاصة مع تصاعد الحديث عن هزيمة محققة لميليشيا الدعم السريع. هذا السيناريو يستدعي بدوره استكشاف الخيارات المتاحة أمام ميليشيا الدعم السريع في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة من الصراع.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن أي مسار تفاوضي لن يكون هدفًا بحد ذاته، بل سيخضع بشكل كامل للواقع الجديد الذي تفرضه هزيمة الدعم السريع، والتي لم تعد مجرد تكهنات أو احتمالات، بل واقعًا ملموسًا على الأرض.
ومع ذلك، لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل تعقيدات الملفات الأمنية والسياسية الشائكة التي ستظل قائمة حتى بعد توقف إطلاق النار. فما هي التحديات الأمنية التي تنتظر السودان في تفكيك الشبكات الإجرامية المتبقية، وضمان عدم عودة شبح العنف والاقتتال إلى البلاد؟
وفي خضم هذه التطورات المتسارعة، قد يسعى قائد قوات الدعم السريع، حميدتي، لإيجاد مخرج سياسي يضمن له البقاء وسط تزايد احتمالات انهيار قواته، ولكن طريقه محفوف بالعقبات القانونية والرفض الشعبي المتصاعد لأي دور له في مستقبل السودان.
هزيمة الدعم السريع.. دلالات ومعانٍ
تثير التطورات الأخيرة تساؤلات ملحة حول ما إذا كانت ميليشيا الدعم السريع تواجه بالفعل انهيارًا فعليًا، أم أنها تمر بمرحلة إعادة تنظيم وتغيير استراتيجي في أساليبها القتالية. تشير التقارير الواردة من مصادر متعددة إلى أن قوات الدعم السريع تواجه صعوبات لوجستية جمة، بما في ذلك خسائر فادحة في الأرواح والمؤن والإمدادات والعتاد العسكري. وقد تعرضت أيضًا لضربات موجعة استهدفت مخازن الذخيرة التابعة لها في ولايات مختلفة، وتآكلت شرعيتها بشكل كبير بسبب اتهامات بارتكاب جرائم حرب موثقة بتقارير أممية وإدانات دولية واسعة النطاق، بالإضافة إلى تراجع الدعم الإقليمي نسبياً نتيجة للضغوط الدولية المتزايدة.
على الرغم من ذلك، تحتفظ الميليشيا بقدرة معينة على المناورة والقتال في المناطق المتاخمة لدارفور، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الدعم اللوجستي الذي تتلقاه من بعض الجهات الإقليمية، خاصةً من دولة تشاد. هذا الدعم، وإن كان محدودًا، يسمح للميليشيا بالحفاظ على بعض القدرات القتالية. ومع ذلك، لم تُهزم الميليشيا بشكل قاطع حتى الآن، مما يجعل الحديث عن انهيار كامل ربما سابقًا لأوانه. ولكن الأمر المؤكد هو أنها تمر بمرحلة ضعف استراتيجي قد تفضي في نهاية المطاف إلى تفككها أو تحولها إلى مجرد جماعات حرب عصابات.
لذلك، من المرجح أن تلجأ الميليشيا إلى تكتيك حرب العصابات طويلة الأمد كخيار أخير، مستفيدة من تحالفاتها القبلية وخبرتها المتراكمة في القتال في معاقلها التقليدية في منطقة دارفور. ويصبح هذا السيناريو أكثر ترجيحًا إذا ما تمكنت الميليشيا من الحفاظ على مصادر تمويلها المتنوعة، والتي تشمل شبكات تجارية غير مشروعة وتهريب الذهب.
في المحصلة النهائية، قد يكون السيناريو الأقرب إلى الواقع هو تحول الميليشيا إلى حركة تمرد غير مركزية، على غرار تجارب بعض الميليشيات الأخرى في مناطق مختلفة من أفريقيا، بدلًا من بقائها كيانًا عسكريًا موحدًا ومنظمًا.
وتعوّل الميليشيا على أن الانتصارات التي حققها الجيش السوداني هي انتصارات ظرفية ناتجة عن عوامل تكتيكية أو تغيرات طارئة في موازين القوى المحلية. ومع ذلك، فإن استعادة الجيش لمواقع استراتيجية هامة في العاصمة الخرطوم، يعكس بلا شك تفوقًا استراتيجيًا واضحًا في قدراته العسكرية.
إذ يمثل تحرير القصر الجمهوري والوزارات السيادية في قلب العاصمة أكثر من مجرد انتصار عسكري بسيط؛ إذ يحمل بعدًا رمزيًا وسياسيًا بالغ الأهمية، كونه يعيد تأكيد سلطة الدولة المركزية وسيادتها على أراضيها.
هذه الخطوة الحاسمة تمنح الجيش سيطرة فعلية على المؤسسات السيادية للدولة، مما يمكّنه من استئناف بعض المهام الإدارية والسياسية، حتى وإن كانت محدودة في البداية. كما أن لهذا التطور تأثيرًا معنويًا كبيرًا، حيث يرفع من الروح القتالية والمعنوية للجيش، بينما يضعف معنويات قوات الدعم السريع بشكل ملحوظ. علاوة على ذلك، فإن السيطرة على هذه المقرات الحكومية قد تهيئ الظروف المناسبة لعودة المؤسسات الحكومية إلى العمل بشكل تدريجي ومنظم في العاصمة.
بيدَ أنه يبقى تحقيق الاستقرار الحقيقي في البلاد مطلبًا أساسيًا يتطلب عملية سياسية شاملة تشارك فيها جميع الأطراف المعنية، بهدف تأسيس حكم رشيد وإرساء مستقبل مستقر ومزدهر للسودان.
وهناك تساؤلات جوهرية تدور حول شكل الحكم المستقبلي للبلاد، وسبل تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة، ومدى قدرة الجيش على إدارة حوار سياسي يفضي إلى استقرار دائم ومستدام. في سياق النظر إلى فترة ما بعد انتهاء الحرب، ومرحلة بناء السلام في البلاد، يطرح مراقبون سياسيون متخصصون تساؤلات هامة حول خيارات التفاوض المتاحة لميليشيا الدعم السريع في حال تسليمها الكامل بالهزيمة.
لكن من الضروري التأكيد على أن تحديد هذه الخيارات بشكل قاطع أمر صعب للغاية، نظرًا لاعتماده على عدة عوامل متغيرة على أرض الواقع. ومع ذلك، يمكن تحليل السيناريوهات المحتملة والخيارات التي قد تلجأ إليها هذه الميليشيا في مثل هذه الظروف، مع الأخذ في الاعتبار أن مفهوم "الهزيمة" نفسه قد يكون نسبيًا، ويتفاوت في تعريفه وتأثيره وفقًا للظروف والأهداف.
بشكل عام، يعني التفاوض من منطلق الهزيمة أن ميليشيا الدعم السريع لم تعد في موقع قوة يسمح لها بفرض شروطها، بل أصبحت في موقف أضعف بكثير، مما يقلل من قدرتها على المناورة وتحقيق أهدافها.
هذا الوضع قد يدفعهم إلى التفاوض بهدف تحقيق عدة أهداف رئيسية، تشمل السعي لإنهاء القتال الدائر، وتقليل الخسائر في الأرواح والمعدات، ومحاولة الحفاظ على سيطرتهم على بعض المناطق أو على قواتهم ككيان منظم، والتفاوض على شروط استسلام أو انسحاب آمن لقواتهم، والسعي للحصول على ضمانات بعدم ملاحقة قادتهم قضائيًا، ومحاولة الحصول على بعض المكاسب السياسية أو الأمنية حتى في ظل الهزيمة النكراء.
بناءً على هذه الأهداف، يمكن أن تشمل الخيارات المطروحة للميليشيا ما يلي:
- المفاوضات المباشرة مع الجيش السوداني، والتي قد تتضمن الاستسلام بشروط محددة، مثل تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وتحديد مصير فلول قواتهم، وتقديم ضمانات لبعض الأفراد، أو التفاوض على وقف إطلاق النار، وانسحاب قواتهم من بعض المناطق المتنازع عليها، مقابل الحصول على ضمانات بعدم التعرُّض لهم أو ملاحقتهم قضائيًا، أو محاولة التفاوض على دور سياسي أو أمني محدود في المستقبل بشروط أقل تفضيلًا من تلك التي كانوا يطالبون بها في بداية الصراع.
- كما يمكنهم اللجوء إلى المفاوضات بوساطة خارجية عبر جهات دولية أو إقليمية موثوقة، مثل الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة أو دول الجوار، مما قد يوفر لهم بعضَ الحماية أو هامشًا أكبر للمناورة، أو السعي للحصول على ضمانات من المجتمع الدولي بشأن سلامة قواتهم أو قادتهم كجزء من أي اتفاق سلام شامل.
- وقد يلجؤُون أيضًا إلى تغيير التحالفات القائمة، أو البحث عن دعم جديد من قوى إقليمية أو دولية أخرى قد تكون لديها مصالح خفية في المنطقة، على أمل تغيير ميزان القوى لصالحهم، أو التفكير في الانضمام إلى تحالفات عسكرية أو سياسية أخرى للحفاظ على وجودهم وتحقيق بعض أهدافهم الضيقة.
كل هذه الخيارات مرهونة بموافقة الجيش السوداني ومدى تقديره لموقفه كطرف منتصر في الصراع، ومدى استعداده للدخول في مواجهة حرب عصابات طويلة الأمد ضد الميليشيا في مناطق دارفور المختلفة.
وفي سياق ما بعد الحرب، يبرز سؤال مهم وملح وهو: هل من مخرج سياسي لقائد قوات الدعم السريع، حميدتي؟ إذ إن المخرج السياسي لحميدتي يزداد تعقيدًا مع استمرار سلسلة الهزائم التي تتكبدها قواته، وتصاعد الاتهامات الموجهة إليه بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مما يضيق خياراته المتاحة بشكل كبير.
فالجيش السوداني والقوى السياسية المدنية تصر على ضرورة تنحيه عن السلطة ومحاسبته على أفعاله، مما يجعل أي حل تفاوضي يتطلب تنازلات كبيرة ومؤلمة من جانبه.
ومع ذلك، لا يبدو في الأفق القريب أي مخرج سياسي لحميدتي في ظل الظروف الحالية، حيث يفضل الجيش وحلفاؤه تصفية نفوذه بشكل نهائي وقطع الطريق أمامه. فمن بين التحديات الرئيسية التي تواجه حميدتي ملفاته الجنائية الثقيلة، حيث إنه بات مطلوبًا من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في إقليم دارفور، بالإضافة إلى الرفض الشعبي الواسع لإدراجه في أي تسوية سياسية مستقبلية.
ورغم ذلك، تبقى هناك بعض السيناريوهات المحتملة، وإن كانت معقدة ومليئة بالمخاطر، فقد يلجأ حميدتي إلى التفاوض عبر وسطاء إقليميين لضمان منفى آمن له مقابل انسحاب تدريجي لقواته من مناطق سيطرتها، على غرار ما حدث مع بعض قادة الحروب في مناطق أخرى من إفريقيا. لكن يبقى السؤال المطروح: أي دولة ستوافق على استضافته في ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة؟
التحديات والدروس المستفادة
تشهد البلاد في أعقاب هذه الحرب القاسية تحدياتٍ أمنيةً واقتصادية جمة وبالغة التعقيد، تتطلب معالجة شاملة ومستدامة لتحقيق الاستقرار المنشود والتعافي الاقتصادي.
من أبرز هذه التّحديات وأكثرها إلحاحًا تحديان رئيسيان هما:
تفكيك الشبكات الإجرامية المتبقية التي خلفتها الحرب، وإعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي تضرر بشدة جراء الصراع.
إن تفكيك الشبكات الأمنية المتبقية وإعادة بناء الاقتصاد يمثلان تحديَين مترابطين ومتشابكين في السودان، ويتطلبان رؤية شاملة وإستراتيجية متكاملة لمعالجة هذه القضايا بشكل فعال.
يجب أن تركز الجهود على تحقيق الاستقرار الأمني الشامل، وبناء مؤسّسات حكومية قوية وفعالة، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية جريئة، وتعزيز المصالحة الوطنية لتحقيق تعافٍ مستدام وسلام دائم في جميع أنحاء البلاد.
ومن بين التحديات الأمنية البارزة، يبرز انتشار الأسلحة بين المدنيين والمقاتلين السابقين كتهديد أمني كبير، حيث يمكن استخدام هذه الأسلحة في أعمال عنف وجرائم مختلفة. وقد تتشكل أو تتطوّر ميليشيات قبلية مسلحة، مما يزيد من احتمالية اندلاع الصراعات القبلية والنزاعات على الموارد الشحيحة.
وتواجه عمليّة تفكيك الشبكات المسلحة في السودان تحديات معقدة، تتمثل في صعوبة تحديد أماكن تواجدها نظرًا لاختبائها في مناطق نائية أو معزولة، إضافة إلى تعقيدات تحديد هويات الأفراد بين مقاتلين ومدنيين، أو تمييز الانتماءات التنظيمية المختلفة.
كما يعاني الجيش والأجهزة الأمنية من نقص حاد في الموارد والقدرات اللازمة لمكافحة هذه الشبكات بشكل فعال، بينما تزيد احتمالية مواجهة مقاومة مسلحة عنيفة من هذه الجماعات من مخاطر تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الأمنية.
ويتطلب النجاح في هذه المهمة الحساسة اعتماد نهج متكامل يجمع بين العمليات العسكرية الدقيقة وبرامج إعادة الدمج والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، مع ضرورة تعزيز التعاون الإقليمي والدولي لمكافحة الشبكات العابرة للحدود.
إن تجربة الحرب المريرة هي تذكير مؤلم بالأبعاد المدمرة للصراعات المسلحة، وأهمية العمل الجاد على تجنب نشوبها في المستقبل.
يمكن استخلاص العديد من الدروس الهامة من هذه التجربة القاسية: إذ إن بناء مؤسسات قوية وفعالة هو الأساس المتين لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة. وبناءً على الظروف الراهنة، هناك احتمال قائم لتكرار أزمات مماثلة في السودان، أو في مناطق أخرى من العالم.
تساهم عدة عوامل في هذا الاحتمال المقلق، من بينها عدم معالجة جذور المشاكل الأساسية التي أدت إلى الصراع في السودان، مثل التدخلات الخارجية غير المسؤولة التي قد تؤدي إلى تفاقم الصراعات وزعزعة الاستقرار. كما أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، مثل الفقر المدقع والبطالة المتفشية، يمكن أن تزيد من التوترات الاجتماعية واحتمالية اندلاع أعمال العنف.
لتجنب تكرار مثل هذه المآسي في المستقبل، يجب العمل بجد على تعزيز مبادئ الحكم الرشيد والعدالة والمساواة، ودعم الحوار والمفاوضات الشاملة بين جميع الأطراف المعنية.
كما يجب معالجة الأسباب الجذرية للصراع من خلال تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة، والامتناع عن أي تدخلات خارجية قد تؤدي إلى تفاقم الصراع وتوسيع نطاقه.